يضع نشطاء فلسطينيون ودوليون اللمسات الأخيرة لمسيرة القدس الدولية المنوي تنظيمها يوم الجمعة القادمة الثلاثين من مارس والذي يوافق ذكرى يوم الأرض الفلسطينية، وستنطلق هذه المسيرة وفق ما هو مخطط لها من دول الطوق المحيطة بفلسطين، كما ينتظر أن تنطلق مسيرات متزامنة من الضفة الغربية وقطاع غزة كما سينظم فلسطينيو الداخل مسيرات في ذات الوقت كما اعتادوا أن يفعلوا في هذا اليوم تحديداً منذ ستة وثلاثين عاماً. يحرص منظمو هذه المسيرة على التأكيد على سلميتها وعلى سعيهم لتجنب الصدام مع قوات الاحتلال الإسرائيلية، وأن هدفهم من هذه المسيرة هو إيصال رسالة إعلامية وسياسية بأن القدس في قلوب كل أحرار العالم، وأنها عصية على الاقتلاع من الذاكرة، وعلى ضرورة وضع حد للاحتلال والتمييز العنصري الممارس ضد الشعب الفلسطيني. هذا التحرك هو الثاني من نوعه بعد مسيرات العودة التي نظمها اللاجئون الفلسطينيون في الخامس عشر من أيار الماضي ذكرى مرور ثلاثة وستين عاماً على احتلال فلسطين حيث نظم اللاجئون الفلسطينيون في ذلك التاريخ مسيرات سلميةً كانت هي الأولى من نوعها منذ تهجيرهم من وطنهم عام 1948 انطلقت من كافة أماكن تواجدهم وتوجهت صوب حدود فلسطين بهدف وضع حد للجوئهم القسري وتمكينهم من العودة إلى قراهم وبلداتهم وفق ما تكفله لهم كافة القوانين والأعراف الدولية.وقد نجحت إحدى تلك المسيرات بالفعل في اختراق الحدود والعودة المؤقتة بشكل رمزي إلى فلسطين، كانت تلك المسيرة في قرية مجدل شمس في الجولان المحتل.كما نجح اللاجئ الفلسطيني حسن حجازي بالوصول إلى بلدته الأصلية حيفا في قلب فلسطين المحتلة وأرسل منها عبر التلفزيون الإسرائيلي رسالةً بأنه لم يفعل أكثر من أنه مارس حقه الطبيعي بالعودة إلى بلدته، ثم اعتقلته الشرطة الإسرائيلية وأعادته من حيث أتى.. هذه المرة وإن جاء التحرك تحت عنوان القدس بخلاف المرة الأولى التي كان فيها تحت عنوان عودة اللاجئين إلا أن الفكرة واحدة وهي تنظيم مسيرات سلمية باتجاه حدود فلسطين ووقوفها على مشارف هذا الوطن الذي يشكل رمزيةً خاصةً في قلوب الشعوب العربية والمسلمة وأحرار العالم..ففي جميع الأحوال وأياً كان عنوان التحرك فإن حشوداً من الفلسطينيين والعرب والدولييين سيقفون على بعد أمتار أو مئات الأمتار من حدود فلسطين المحتلة منذ عام 1948 وسيرسلون رسالةً للاحتلال الإسرائيلي بأن عقوداً من النكبة والاحتلال والاضطهاد لم تنجح في نزع فلسطين من قلوبهم، وأن هذه الدولة الاحتلالية ستظل كياناً غريباً في المنطقة لن تتقبله شعوبها ولن تطبع معه مهما تقادمت السنون. هذا الأسلوب الجديد في النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي هو نتاج للروح الجديدة التي بثتها الثورات العربية في نفوس الشعوب ومنحتهم الثقة بقدرتهم على التغيير بعد عقود من سيادة ثقافة اليأس والإحباط.فقد انطلقت أولى الدعوات لمسيرة العودة عبر مواقع التواصل الاجتماعي الالكترونية في شهر فبراير من عام 2011 بعد تنحي الرئيس المصري حسني مبارك عن الحكم وما مثله من نجاح لمتظاهري ميدان التحرير في تحقيق هدف كان ينظر إليه بأنه ضرب من المستحيل بوسائل سلمية خالصة.هذا المشهد كان ملهماً للشبان الفلسطينيين التواقين إلى الخروج من دائرة الرتابة والجمود والراغبين في المساهمة في خدمة وطنهم فاجتمع نفر منهم وقالوا كما أن للشعوب قضاياها التي تثور من أجلها فنحن أولى بالثورة إذ إننا شعب شرد من وطنه ولا يزال يعيش في مخيمات اللجوء القسري منذ ثلاثة وستين عاماً فلماذا لا ندعو لثورة للاجئين الفلسطينيين من أجل العودة إلى وطنهم بوسائل سلمية وهو الحق الذي تكفله لهم القرارات والمواثيق الدولية.. ويبدو أن أجواء الثقة بالنفس والأشواق الجامحة للتغيير التي كانت تجتاح الشعوب العربية في تلك الفترة تحديداً كان لها الدور الأساسي في سرعة انتشار هذه الدعوة والتحشيد لها وكسب الأنصار حتى أن التفاعل مع هذه الدعوة قد تجاوز توقعات الداعين أنفسهم بكثير. مما يلفت النظر في هذه الطريقة النضالية المبتكرة أنها تمثل تجاوزاً للأساليب التقليدية التي تمثلها الفصائل الفلسطينية ، ويبدو أن الفصائل الفلسطينية بشكل عام لن تكون من الرابحين من الربيع العربي وإن حاولت أن تسوق نفسها كذلك، وذلك لأن غلبة الأسلوب الروتيني المكرر على أدائها وافتقادها إلى روح التجديد ومواكبة طموحات الشباب سيساهم في سحب البساط من تحت أقدامها لصالح قوىً شبابية صاعدة متحررة من أي تأطير أو تقييد، وهذا ما تميزت به مسيرة العودة إذ أن من أطلق الفكرة ودعا إليها وحشد لها الأنصار وتصدر المشهد كانت مجموعات من الشباب المتحررين من القيود التنظيمية، وهذه المبادرة الشبابية تعد تطوراً ملموساً في مجتمع يغلب عليه الاستقطاب الحزبي الحاد.. فيما يخص النظرة الإسرائيلية إلى هذا الأسلوب النضالي الجديد وهو أهم ما في الأمر فإن إسرائيل تنظر بقلق بالغ إلى هذه التحركات وتخشى من تحولها إلى ثقافة راسخة تتطور وتكبر حتى تمثل تهديداً وجودياً لها. مرجع هذه الخشية هو هشاشة إسرائيل كدولة وعدم قدرتها على مواجهة سيناريو اختراق مئات الألوف للحدود. فإسرائيل قامت على أساس طرد السكان الفلسطينيين من أرضهم وإحلال المستوطنين الصهاينة محلهم، وقد كانت إسرائيل تراهن حين فعلت ذلك قبل ثلاثة وستين عاماً على أن الكبار سيموتون والصغار سينسون وهي المقولة الشهيرة التي نطق بها أحد كبار مؤسسي دولة إسرائيل بن غوريون.لكن واقع الحال بعد كل هذه العقود الطويلة يقول إن الكبار والصغار ماتوا لكن أجيالاً جديدةً ولدت في مخيمات اللجوء لا يقل تعلقها بأرض الآباء والأجداد عن تعلق الكبار الذين كانوا شهوداً على النكبة.وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن فلسطين التاريخية –التي تسمى اليوم إسرائيل-تفتقد إلى العمق الجغرافي، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أيضاً أن فلسفة إسرائيل في المحافظة على ذاتها تقوم على ضرورة ضمان التفوق الديمغرافي للصهاينة على الفلسطينيين في حدود فلسطين التاريخية فإن هذه المعطيات تعطينا مؤشراً على مدى خطورة نجاح مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين يوماً ما في اختراق الحدود والاعتصام داخل وطنهم المحتل ورفض أي دعوات للعودة إلى مخيماتهم متسلحين في ذلك بالقرارات الدولية التي تعطيهم الحق بالعودة إلى ديارهم.إن هذا المشهد كفيل بأن يلقي الرعب في قلوب المستوطنين-أقصد بلفظ المستوطنين كل الصهاينة الذين جاءوا من بلاد أخرى واستوطنوا في فلسطين محل سكانها الأصليين-وأن يدفع كثيرين منهم للتفكير جدياً في الرحيل. هذا القلق الإسرائيلي عبر عنه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في أعقاب مسيرة العودة في أيار حين قال إن هذه المسيرات تكشف بأن الصراع لا يزال على وجود إسرائيل وليس على حدود 67 وحدها..واليوم تستبق إسرائيل مسيرة القدس الدولية بتصريحات توحي بالقلق والارتباك بأن إسرائيل ستنظر إلى من يقترب إلى حدودها بأنه متسلل وستتعامل معه بكل حزم وستمنع المسيرات من الاقتراب من حدودها بالقوة. وخشية إسرائيل من هذه المسيرات لا تظهر في تصريحاتها الإعلامية وحسب بل إنها تسعى عبر قنواتها الدبلوماسية والسياسية سواءً قبل مسيرة العودة أو الآن قبل مسيرة القدس إلى الضغط على دول الجوار لمنع وصول المتظاهرين إلى مشارف الحدود. لكن منطق التاريخ يعطينا الأمل بعبثية هذه المحاولات الإسرائيلية لإجهاض فكرة تستند إلى شرعية أخلاقية، فالمثل العربي يقول ما ضاع حق وراءه مطالب، وكون إسرائيل قامت من أول يوم على أساس القتل والتشريد واغتصاب حقوق الشعب الفلسطيني يبقيها دائماً في حالة قلق أخلاقي يحرمها من الاستقرار والحياة الطبيعية، بينما نرى في المقابل إصراراً من قبل الشعب الفلسطيني تسانده في ذلك الشعوب العربية والمسلمة وكل أحرار العالم على حتمية الانتصار ونيل الحقوق المشروعة.وحتى يتحقق هذا الهدف فإن على الفلسطينيين الانتباه إلى أهمية هذا الأسلوب النضالي الجديد والعمل الحثيث على تطويره والاستمرار فيه حتى يصبح أداةً ضاغطةً تضرب مشروع الاحتلال والاضطهاد الإسرائيلي في صميمه..