يتسم هذا المفصل التاريخي من حياة الأمة، بانبثاق مشروعين مصيريين هما مشروع الوحدة ومشروع المقاومة، سنحاول في هذا المقال أن نرصد تفاعل المسارين، وإبراز وظيفة المقاومة في افتتاح سياق وحدوي غير مسبوق./ بقلم عبدالرحيم التهامي. لا يقف جدل العلاقة بين الوحدة والمقاومة، على حد أن الوحدة شرط منتج لعنصر القوة في المقاومة، وبالنتيجة لحقيقة المقاومة بالمعنى الواقعي؛ إذ لا مقاومة على قيد الإمكان والبقاء من غير استجماع لعناصر القوة والتماسك، ولا فقط في كون المقاومة كاستحقاق وكرد على التحدي الخارجي تستنفر الجميع؛ أو كذلك يُفترض؛ نحو التكليف الشرعي كل من موقعه، وتدفع إلى الهامش القصيّ كل الاختلافات والتناقضات الثانوية لتكون الوحدة في الموقف وليكون الاصطفاف واحدا، وقد جاء القرآن الكريم مؤكدا على هذا المعنى الجدلي كما في سورة الصف {‏ إِنّ اللهَ يُحِبُّ الذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفاًّ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، بل إن الأمر يتخذ نمط العلاقة الشرطية؛ فكلما امتدت الوحدة في واقع الأمة كلما تراجعت الحاجة إلى المقاومة، لأن المقاومة تكون في أصل انبثاقها محكومة بشرط الاستباحة والعدوان؛ لدفعه ودحره، ولا عدوان على أمة كلما كانت متماسكة موحَّدة ومنيعة وذات سيادة كاملة، وكذلك يمكن القول أنه كلما انطلقت حركة مقاومة إلا وانفتح معها مجال لتموضع جديد في الأمة، وهو التموضع الذي يقوم بعملية تذويب للخصائص التي تنتج التمايزات الثقافية والمذهبية والعرقية، وتمنحها وظيفة ثانوية في مقابل هيمنة كليّة للهوية المركبة والجامعة. لكن وبالخروج من افتراضات جدل العلاقة هذه، وحين التأمل في واقع الأمة، خاصة في هذا المفصل الدقيق من تاريخها والذي يمكن أن نؤشر على بدايته بلحظة الانتصار التاريخي الذي حققته المقاومة الإسلامية في حرب تموز2006، وما لحقه من تفاعلات وتطورات، وهو المفصل الذي يمكن اعتباره محكا تكشّفت في ضوء حقيقته الكثير من الحقائق المتعلقة بالأمة وواقعها وإمكاناتها وعناصر الخرق فيها، فهذه المقاومة التي حققت أول نصر في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني، وأهدته لكل الأمة؛ المقاومة التي خلقت اصطفافا جماهيريا خلف مشروعها في كل العالم العربي والإسلامي، لم تشبه شائبة المذهبية الضيقة..هذه المقاومة؛ وجدنا فريقا من الأمة ومن الحكام يتربص بها الدوائر ويشن عليها حملات التكفير ويقابل انجازها العظيم بالتحريض الإعلامي والمذهبي، ويستهدف رموزها بالإساءة والتشويه، بل وصل الأمر إلى حد التشكيك في عروبة فصائل المقاومة الفلسطينية من خلالها ربطها بما يسمى بالمشروع الإيرانيᴉ واعتبار نضالها الذي عمره من عمر بدايات الاحتلال الصهيوني بأنّه يخدم الأجندة الإقليمية لإيران، وهي الأجندة الهلامية التي توظفها بعض الأطراف ومن منطلق مذهبي وسياسي غاية في البؤس لمحاولة تحوير الصراع مع العدو الصهيوني إلى صراع مع إيران ومزاعم أطماعها الإقليمية، وأوهام مشروعها التشييعيᴉ.. وعلى اعتبار انّها الخطر الاستراتيجي الداهم على الدين والمنطقة. وفي هذا السياق فإنّنا لا نسقط من الحساب دور الصهاينة والأمريكان، ومعهم الانجليز الأكثر خبرة بالمنطقة وفهما لخصائصها الدينية والمذهبية، في التركيز على البعد المذهبي لإعادة صياغة خرائط المنطقة، وقد شكل احتلال العراق مدخلا لاختبار فاعلية هذه الإستراتجية، التي أسقطتها بحزم المرجعية الشيعية بالعراق، وإن كان لا يزال بعض المتطرفين والمشبوهين، يشتغلون على معطياتها المؤلمة. لذلك نعتبر أن توجّهات الوحدة الإسلامية قد واجهت امتحانات عسيرة، وتمحور دورها ومنذ احتلال العراق على استيعاب تداعيات استراتجيه التفجير المذهبي للمنطقة، وبالنتيجة انتهى مشروع التقريب والوحدة في الأمة إلى انسدادات فعلية بدا معها مربكا أمام حجم الهياج المذهبي الذي اعتمد على الإعلام الفضائي كرافعة له في صوغ ثقافة دينية متشنجة وغير مؤنسنة. في مقابل مأزق حركة التقريب والوحدة، شهد المشروع المقاوم حِراكا نوعيا مدفوعا بزخم الانتصارات التي تحققت في السنوات الأخيرة، بل إن تجربة المقاومة في بُعدها السياسي سواء في لبنان من خلال الأداء السياسي لـ"حزب الله" أو في فلسطين المحتلة، وتحديدا في غزة و برغم حجم المؤامرة أوجدت قوة دفع معتبرة للخيار المقاومة في المنطقة، وجعلته ومن خلال رؤاه السياسية وبفعل أطروحته الوحدوية في طليعة قوى التحرر في العالم العربي. ومما لا شك فيه فإنّ مسلك المقاومة اكتسب رهان الجماهيرية، فكل شعوب المنطقة هي مع خيار المقاومة، ولم تحل الاعتبارات المذهبية من دون انحياز الجماهير للفريق المقاوم في الأمة، ودعمه في لحظات العسرة، وبذلك تكون المقاومة قد استنقذت الواقع الإسلامي من الاحتراق في نار الفتنة، ووفرت لمشروع الوحدة بالنتيجة قاعدة صلبة وتاريخية بإبقاءها للتناقض الرئيس مع العدو الصهيوني وحلفائه شاخصا ومحددا، ولم تكن المقاومة خلاّقة لجهة ترسيخ التناقض الأساس بين الأمة وأعداءها التاريخيين فقط؛ وهذا في حدّ نفسه يعتبر انجازا تاريخيا، لأن حجم المؤامرة كان يستهدف هوية الأمة وذاكرتها وشرفها وعناصر النهضة فيها، وكادت أن تفتك بنسيجها المذهبي القائم على معطيات التعدد والتعايش، بل يمكن القول - وهذا في غاية الأهمية- أن المقاومة أسهمت في حفظ الجوهر الإنساني للدين، لربطها الفعل المقاوم بمبدئَي الحق والحرية وكل القيّم النبيلة المرتبطة بهما، وهو الجوهر الذي مارست عليه قوى التعصب والتطرف أقسى الانتهاكات حتى غدت معها صورة الإسلام مشوهة في الغرب ومشوشة بين قطاعات من أبناءه. وثمة وظيفة أخرى تحسب لحركة المقاومة، وهي التي يمكن أن نسميها بالتأهيل السيكولوجي للأمة، فلا أحد يتجاهل اثر الإحساس المفرط بالإحباط ومفاعيله المدمرة على كل أمة، وهو الإحباط الذي - للأسف- استفادت منه تيارات التعصب لفتح مجالات حِراك وهمية ومفتعلة أمام المحبَطين، مستدرجة إياهم بثقافة دينية بئيسة وسطحية إلى وهم التطهّر المذهبي، وإلى أوهام المعنى والانجاز والفلاح في حروب مذهبية واشتباكات طائفية ليس فيها من رابح إلا أمريكا و(إسرائيل) والرجعيات العربية..لكن المقاومة وبحفظها للتناقض الرئيس وبتحقيقها لانجازات فعلية في مواجهة المشروع الصهيوني، وبأدائها الإعلامي الناجح أسهمت بأكبر عملية تعبئة للأمة، تحررت بموجبها من الإحساس بالعجز وتخلصت من إحباطات الهزائم المتتالية، وبدأت ترسم لها مسافة عن مواقف أنظمتها المتخاذلة، بل إن التطورات الأخيرة في معطيات المواجهة مع العدو الصهيوني والتي عكسها خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في أسبوع المقاومة بتاريخ 16شباط، ستفتح حتما على صيرورة جديدة تعزز من موقع الأمّة في الصراع وتمنحها ثقتها بنفسها، لتتشوف وبحماس للحظة المعركة الحاسمة التي تنهي وجود دولية (إسرائيل) من الوجود. إن هذه الصيرورة الجديدة التي افتتحها الأداء المقاوم، وبمعطيات سيكولوجية مختلفة وايجابية، توفر فرصة تاريخية لمشروع الوحدة الإسلامية، الذي عليه أن يعيد تأسيس نفسه ليس فقط على الأصل القرآني ودائرة المشتركات التي تسعنا جميعا سنة وشيعة، وعلى مقتضى المصلحة الجامعة، بل وأيضا على أساس وحدة المعركة بوجه المشروع الصهيوني والأمريكي، وعلى أساس من وحدة المصير المشترك، وليُصار إلى استبدال ثنائية التناقض في الأدبيات الدارجة: وحدويٌ في مقابل متعصب، بثنائية أكثر تغايرا، وأكثر فاعلية على مستوى الفرز وهي ثنائية: وحدويٌ في مقابل متصهين، مع الإبقاء على دائرة رمادية في البين وتشمل المذهبيين الذين لا يتحمسون لفكرة الوحدة لكنهم لا يضعون الشوك في طريقها. ولم تكن مجرد صدفة تلك التي جعلت طهران تحتضن وفي أسبوع الوحدة الإسلامية مؤتمرين، مؤتمر للمقاومة تحت عنوان "التضامن الوطني والإسلامي من أجل مستقبل فلسطين"، ومؤتمر الوحدة الإسلامية في دورته 23، بل هو تلازم مساري المقاومة والوحدة.




محتوى ذات صلة

لا للطائفية ، نعم لثقافة المحبة والتعايش السلمي

سيأتي يوم من الأيام على  الأجيال القادمة ينظرون إلى التمييز الطائفي  جريمة من الجرائم الكبرى في حق الإنسانية  ، وخيانة من الخيانات العظمى للدين الإسلامي الحنيف   ، وعامـلا ً من عوامل التخلف والجهل  ، ...

|