أ.د سمير سليمان:
علائقية العالم الإسلامي والغرب -جدلية الذات والآخر والمستقبل
«علائقية العالم الإسلامي والغرب -جدلية الذات والآخر والمستقبل»
أ.د سمير سليمان*
أ. مقدمة
إذ كان صحيحاً أن الغرب ليس واحداً ، بمعنى وحدة المصالح السياسية و الاقتصادية و البنى الثقافية ، و أن الديموقراطيات الغربية ليست واحدة لتمايز هذه عن تلك ( الديموقراطية الأميريكية و الديموقراطية الإنكليزية ، و الديموقراطية الفرنسية ...إلخ) ، فالصحيح أيضاً أنه واحد حضارياً مع بعض الخصوصيات هنا و هناك. بمعنى انتمائه إلى مشروع حضاري واحد يشكل نظرته إلى العالم و الوجود ووعيه بهما و تفسيره لهما، بما فيهما و من فيهما ... و في طليعة أسباب التلاقي السياسي ، لا نرى المصالح وحدها هي الأصل ، و إنما نراها أيضاً في وحدة الأفكار التي هي منبثق كل سلوكيات البشر ، بما في ذلك تحديد المصالح ومفهومها و أدوات تحصيلها. و قد صدقت المسيحية ، حتى بنسختها/ نُسَخها الغربية ، إذْ قالت: " في البدء كانت الكلمة". و الكلمة / الفكر تنشئ الفعل.
هذا الغرب المتغطرس الذي نراه غالباً ، يسرح و يمرح إذ تخلو له ساح التدافع و الصراع ، لكننا مع وجود منازع أو ندٍ أو خصم أم منافس ، نلقاه مربكاً و مضطرباً. كذلك كانت حاله في الحرب الباردة في مواجهة خصمه الإيديولوجي و الاستراتيجي: الاتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي اللذين تهافتا ، لا بقوة الغرب و بأسه ، بل بتشققهما و تآكلهما وانهيارهما من الداخل قبل استدخال الخارج.
وكذلك كانت حال الغرب مع الاستفاقة الإسلامية المعاصرة التي استنهضتها ثورة الشعب الإيراني بقيادة الإمام الخميني ( قدس سره). و من يُرِد تدبر التاريخ ، يلقَ الغرب إبّان القرون الوسطى مسفوحاً بذات أعراض الإرباك والاضطراب في مواجهة الفتح الإسلامي لإيبيريا التي أصبحت الأندلس بعد فتحها.
· أستاذ جامعي و رئيس تحرير مجلة LE DÉBATالتي يصدرها في بيروت باللغة الفرنسية المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
في تشخيص علة/علل تلك الأعراض قيل : صدمة حضارية ، و قيل :صدمة دينية ، و قيل : خوف على الوجود و المصير... . و نقول أيضاً : هشاشة الأعراض هي من هشاشة المشروع الحضاري/ الفكري الذي يعتنقه الغرب و يسيله في صيغ حياته و علاقاته، و يسعى
إلى تعميقه و فرضه . لذلك هو يخشى الآخر الحضاري و يتوجس منه ، إنْ آنس فيه قدرة وتمكناً.
ديدن الغرب دائماً عندما تعصف به صدمة هجومية أو دفاعية أو بهدف إثبات الوجود من قبل نَدٍ أو مبارز حضاري أن يخشى. حتى إذا شكلت الصدمة تهديداً لاستكباره و تألهه و تفوقه جنح إلى الهلع المولِد للكراهية والعدوانية أو المشجِع عليهما ، ما يجعله ينزلق إلى العنف و الحرب. و ما ذاك بدليل قوة وعافية و ثقة بالنفس ، إنما هو مؤشر توتر و اضطراب و تخبط.
في ضوء هذه القاعدة المنهجية نقرأ علائقية العالمين الإسلامي و الغربي و من خلالها نستقرئ مستقبلها الذي لا نراه نسخة طبق الأصل عن حاضرها .فالثابت و المتحول في البشر ثنائية قطعية، مع وعينا بالمحصلة أن المتحول في جوهره ثابت أيضاً لأنه محمول على الثابت.
ب. المأزق العلائقي و آفاق الحل :
ليست نادرة الحدوث الاختبارات أو الابتلاءات التي مرت فيها علائقية العالمين الإسلامي و الغربي على مر التاريخ، و كلها حبلى بالدروس و العبر التي من شأنها أن تعين في تقدير وتوقع مشهديتها في المستقبل .
كان اختبار "الآيات الشيطانية " لسلمان رشدي أحد مؤشرات المآل الذي أفضت إليه تلك العلائقية في الآزمنة المعاصرة و قد تلتها مؤشرات لاحقة عَبَرت في الظل و قلما قاربها دارس أو باحث أو أعقبتها ردة فعل تُذكر . إلى أن كان اختبار الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية المنشورة في جريدة " “JYLLANDS-POSTEN الدانمركية عام 2005، ثم الإساءات المتجرئة المتتالية على مقدسات المسلمين ، بدءاً من مسلسل " الأفلام الوثائقية " المزعومة عن الإسلام...إلى محاضرة البابا الحالي بنيديكتوس السادس عشر في جامعة " ريغينسبورغ" الألمانية في 12 أيلول /سبتمبر 2006 ... و صولاً إلى الاغتيال البربري للسيدة مروى الشربيني في قاعة محكمة "دريسدن " في ألمانيا يوم 1 أيلول/ سبتمبر 2009... فالضجيج حول حظر الحجاب و النقاب وبناء المآذن... و كلها حوادث رمزية لتجارب علائقية حافلة بالغصات . بيد أنها أضاءت مسار تطور العلاقات بين العالمين الإسلامي و الغربي ، فكشفت و اكتشفت مدى تأزمها و تهتك عراها، و دلت في الوقت نفسه على كوى الضوء فيها ، ما يسنح بإجراء مراجعة نقدية لها و تآمل في محصلاتها . و كلها إلى اليوم يقول : " ليست الأحوال العلائقية بين العالمين في خيرٍ البتة " و هي إن استمرت على هذه الوتيرة من التباعد وسوء الفهم والتوجس والتربص فلن تؤول في نهاية المطاف إلا إلى المزيد من العداء والاضطراب، وربما إلى المزيد من الحروب التي قد تندلع في أماكن أخرى إضافية من العالم. وبالتالي فلا مصلحة حقيقية وسويَّة للطرفين، ولا لأحد، ولا للسلم والاستقرار العالميين في اللبث مرتهنين لتبعات الدفع الذاتي الذي تدور فيه الأزمة العلائقية المتفاقمة في آخر ما وصلت إليه من فصول التراجع والتردي، أو "الستاتيكو" أحياناً.
أما الحلول فقد باتت معروفة العناوين لكنها أمست كالدواء الذي يتمنع العليل عن تناوله بانتظام ودأب. وإنَّ لَفِي الطرفين قوى حية وصادقة أكثر من أن تحصى ما انفكت عن ابداء سخطها ورفضها لما يفرض على العالم أن يصير إليه، ولا عن نيتها وإرادتها واستعدادها للتصدي له ومواجهته بجهود مشتركة وحراك منسق وتكاملي بين العالمين. ومافتئت هذه القوى تنمو ولكن بأفق غير واضح وبطءٍ شديد برغم حسن طويتها، وهي تتطلع إلى عالم أفضل وإلى إقامة نظام عالمي أكثر عدلاً، وإلى سلام وأمن دوليين مستقرين ودائمين. وهذه مقدمات أو إرهاصات تعاف على مستوى النوايا ترتقب لها تفاعلات وتحولات مستقبلية مأمولة. إلا أن تلك القوى لم تتحول بعد إلى جبهة صد عالمية متماسكة ومنظمة ذات مشروع واضح ممكن التنفيذ وقادر على فرض مواقف تغييرية إيجابية ولم تتمكن بعد حتى من تشكيل تحالف تضامني حقيقي قائم على رؤية مشتركة لهموم العالم وكيفيات التعامل بها. وإنْ بدا هذا الإقرار بتردي الأوضاع العلائقية «طوباوياً» عند بعض الانهزاميين في الظروف الحالية، فإننا بالمقابل نرى إلى أن الإستمرار في السياسات الجنونية الدائرة في العالم، هو الطوباوية بعينها، لأنه يعني إهداء الإنسانية إلى التذابح، وإطلاق فوضى الهمجية التي لن يسلم من نارها أحد، وهنا نجدد التأكيد على أن لا خيار ثالثاً بين هذين الخيارين.
ما يستتبع بالضرورة مراجعة لا مفر منها في النظرة إلى العالم وإلى العلاقات بين البشر وإلى الآخر؛ وبالتالي إلى ما بين الشعوب والأمم. ما يحتم - من جهةٍ أخرى - وبالضرورة تحقيق حدٍ أدنى من العدل والتوازن بين ظهرانيهم ورد الحقوق المنتزعة أو المغصوبة إلى أصحابها الشرعيين وإشعارهم بالأمن والاطمئنان إلى وجودهم وحاضرهم ومستقبلهم، والإقبال عليهم برغبة مخلصة في بناء شراكة حياة متوازنة وحقيقية معهم، وإقامة سلام دائم تصونه وتحميه مرجعيات مشتركة متفق عليها بعيداً عن أي هيمنة أو تهديد، وذلك في نسق علائقي سوي قائم على الثقة والإحترام المتبادلين ونظرة مشتركة إلى المستقبل قائمة دائماً على الاعتراف بالآخر وحقه في الاختلاف والتنوع، وفي الاحتفاظ بخصوصياته المعتقدية والثقافية، وحقه في الحرية - قبل ذلك كله وبعده.
ثمة نظرة مغايرة إلى العالم والإنسان مطلوبة أذاً، ما يعني تعديلاً أساسياً في الرؤية الحضارية و في الأفكار كما في كثير من مرتكزات المشروع الحضاري الليبرالي. فهذا العالم الذي يعج بستة مليارات بشري لا يمكن، ولا كان ممكناً قَطُّ، أن يخضعوا فيه لسلطة واحدة، أو لمنظومة حضارية أو ثقافية واحدة. ثم لَيكونَنَّ من باب قصر النظر أن لا نتنبه إلى الأهمية الاستراتيجية الديموغرافية المتمثلة في وجود ثلاثة و ثلاثين مليون مواطن مسلم في شتى بلدان العالم الغربي . و هم ما فتئوا يتزايدون باضطراد، و إلى ظاهرة إعتناق الإسلام بمعدل ستة أشخاص كل يوم في فرنسا وحدها ، على ما تتناقله بعض وسائل الإعلام الأوروبية .
ج. إشكاليات المعرفي و السياسي في العلاقات :
أما على مستوى العلاقة بالآخر فذلك يقتضي في رأينا العمل المتوازي من خلال نسقين متزامنين من الجهود المشتركة: نَسق معرفي وقيمي أخلاقي ونسق سياسي. الأول يصحح صورة الآخر وينظفها مما رميت به من أدران الجهل والأوهام والتشويه والازدواجية المعيارية والتعصب، من خلال مراجعة نقدية ومعرفية شاملة في المنهج والعلم وفي الوعي وفي الأهداف والتصورات؛ أما الثاني فيسوي بين المصالح المشتركة ويعدل في الحقوق والواجبات كلها من خلال مراجعة نقدية سياسية موازية لتاريخ العلاقات بين المسلمين والعرب من جانب وبين الغرب من جانب آخر...
د. المسلمون المهاجرون و الأزمة العلائقية :
وما يصح – منهجياً – لإصلاح العلاقات بين العالمين الإسلامي والغربي، أحرى به أن يكون صحيحاً أيضاً بين أهل الغرب وبين مواطنيهم الآخرين من المسلمين الغربيين أنفسهم، وذلك على أساس الاعتراف بمواطنيتهم الكاملة التي من شأنها أن تشكل أحد مداميك التلاقي و التقارب بين العالمين .
وإنه لمن الأهمية بمكان التنبه إلى أنه يتعذر موضوعياً، من وجهة نظرنا، نجاح أي استواء علائقي بين الأقليات المسلمة ومواطنيهم من غير المسلمين، مادامت العلاقات بين العالم الإسلامي والعربي وبين الغرب على هذه الحال.
وأي إصلاح أو ترميم أو تحسن يمكن أن يطرأ على هذه العلاقات، سينعكس بالضرورة إيجاباً واستقراراً داخل المجتمعات الغربية نفسها.
ولا يجادل أحد فيما يذهب إليه بعض علماء الاجتماع والأنطروبولوجيين الغربيين من قول: إنه لا ينبغي للأقليات المسلمة في الغرب أن يتحول أبناؤها إلى مجرد «وكلاء حصريين» يستوردون الصراعات إلى قلب المجتمعات التي احتضنتهم، أو إلى ما يسميه Olivier Roy: «رهائن لقضايا الشرق الأوسط».
... نعم لا يجادل أحد في صحة ذلك. لكن ما لا ينبغي الجدال فيه أيضاً أن هؤلاء المهاجرين المسلمين لا يتعاطفون مع قضايا بلدانهم وحقوقها لأنهم جزء من «الأمة الإسلامية» فحَسْب، بل لأنهم أيضاً، قبل ذلك وبعده، مكلفون بموجب شريعتهم واعتقاداتهم الدينية بمناصرة قضايا الحق والعدل والحرية في كل مكان وزمان، بتنزيه كامل عن أية عصبية دينية أو عرقية أو اثنية تتعلق بهم أو تتصل بغيرهم وأسوة بكل أحرار العالم. فلا يمكن لمسلم شرعاً أن ينصر مسلماً آخر في باطل أو إثم أو اغتصاب أو ظلم. وبهذا المعنى يتخذ معنى «الأمة الواحدة» القرآني بعداً أخلاقياً وإنسانياً واستراتيجياً، حتى ولو صح أن الآيتين القرآنيتين الوحيدتين اللتين أوردتا هذه التسمية قد قصدتا بها «أمة المسلمين» كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين، بينما رأى غيرهم أن الأمة المقصودة بالآيتين لا تعني «ملة المسلمين» حصراً بل «النوع الإنساني» برمته أو البشرية جمعاء، والمعنى الأخير عندنا هو الأصوب. وبالتالي، فإنه لمن قبيل التبسيط الزعم بأن المسلمين محكومون بنعرة /عصبية الانتماء إلى أمة المسلمين وحدهم بموجب تكليفهم الديني وفي جميع الأحوال والظروف.
هـ. العلاقات بين الإرهاب و مقاومة الاحتلال:
إن «إشكالية الإرهاب» هذه هي أحد أبرز عناوين الالتواء العلائقي القائم بين العالمين. فمسلمو العالم مثلاً مأخوذون دائماً بالصدمة والاستهجان وهم يشهدون كل هذا الصخب السياسي والقانوني والإعلامي والأمني المنظم الذي تثيره جهات معروفة في الغرب فيما يتعلق بقضيتين، هما مشروعتان من وجهة نظرناً، لا يجوز أن يختلف في مبدئيتهما عاقلان، ونعني تحديداً: حق مقاومة الاحتلال الأجنبي، ومنع الاعتداء على المدنيين وإرهاب الأبرياء. وكلاهما نصت عليه الشرائع الإلهية والقوانين الدولية. وكل محاولة للخلط بينهما، أو الاختباء خلف إحديهما للنيل من الأخرى هما بمثابة التجديف القانوني والتضليل السياسي. وإذا كان العالم منهمكاً في السجال حول هاتين القضيتين الخاضعتين أساساً لقانون السببية، فإن الأجدر تفهمهما بالتوجه أصلاً إلى الأسباب لا إلى النتائج وحدها، وإلى الأفعال لا إلى ردات الفعل عليها فقط، لأن الاستغراق في مساجلة النتائج لا يعين على وعي المشكلة المطروحة ، ولا على تبين الحكم الصحيح والعادل، فنكون، والحال هذه، كمن يساجل في قضية زائفة...، ثم إن ردة الفعل - على ما نحسب - لا تسقط إلا بسقوط الفعل نفسه.
و. الذات الإسلامية و الانتفاضات الثلاث :
تكراراً نعود إلى التأكيد على أن تجديد تقديم النفس للآخر يستدعي أولاً إجراء جردة حساب نقدية ذاتية للنهج العلائقي السابق / (الحالي) بهدف وعي وتصحيح أخطاء الماضي والتجارب العلائقية السابقة في الرؤى والمفاهيم والممارسات والمواقف من الغرب مهما تكن. على أن يستتبع ذلك، أو يزامنه، بثلاث انتفاضات على الذات متلازمة تسابق الزمن الذي بات عبور المسلمين فيه وهم خارجه، وبالتالي خارج التاريخ، مكلفاً، بل شديد الكلفة على الأصعدة كافةً.
أولاً – الانتفاضة الأولى:
انتفاضة فكرية ثقافية يعيد المسلمون من خلالها الاعتبار لمشروعهم الحضاري التقدمي والدينامي الذي تكاملت فيه ثلاثية الإنسان : المقدس والعقل والواقع في تواكب لصيق بالحياة والتطور وتحولات الاجتماع البشري، وأنتج لقرون خلت منظومات معيش ونماذج لمجتمع تعددي متكامل ومتوازن ومستقر.
إننا ندعو بإلحاح إلى الانخراط في عملية إعادة هندسة للذات وإبداع مفاهيم جديدة واجتهادات مختلفة تقع في قلب العصر، تلهج بأسئلته الجديدة وعليها تجيب ولها تستجيب، فتشكل رافعة حقيقية لاستنهاض إسلامي جديد وانتباهة حضارية جديدة تسترجع المسلمين إلى دورهم الحضاري المفقود الذي يبدو أن العالم لن يكون له مُستقر من دونه.
لقد قطع الغرب من جهته شوطاً متقدماً في مجال ما يسمى بجدلية الفكر والواقع، أو جدلية المثال والواقع كما تصورهما إنطلاقاً من مشروعه الحضاري المادي / رؤيته الحضارية. ولايزال أمام التجربة الإسلامية في الحقل نفسه الكثير الكثير لتفعله، أو لتصلحه، أو لتختبره وتتبين فيه الزبد مما ينفع الناس، أو لتتجاوزه في إطار جدلية الفكر والواقع تلك، وبما ينسجم ومباديء وقيم المشروع الحضاري الإسلامي ويستجيب لمتطلبات الشخصية الحديثة والذات الحديثة للإنسان المسلم والجماعة المسلمة. ولعل في بعض أهم شروط تكوينها: الفكر العصري العقلاني الذي يتقن توظيف المنهج العلمي في الوصول إلى المعرفة بتنوعاتها ، ثم تسييل نتائج المعرفة المتحققة في تدبر مشكلات الحياة كافة، و ها هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقدم تجربة رائدة وفريدة من نوعها في هذا السبيل ، و قد أمسى تميزها العلمي و التكنولوجي ، برغم الحصار و التطويق ، مضرب المثل و مثاراً للإعجاب العالمي.
في تلك الشروط كذلك لزوم الاعتراف بالتنوع الإنساني على المستويات كلها، وبوجود اختلافات في الرأي، والتكيف الإرادوي مع حقيقة رئيسة قوامها أن في نظام الحياة ومعيش البشر دائماً رأياً آخر يحتمل الصواب وتقتضي الرسالية الدينية لحظه واحتسابه في كل أنماط حراكها وتوجهاتها، وهي التي أتت وتنزلت لأجل الآخر وهدايته قبل كل شيء. فحتى في الخصومة ثمة معايير و قيم في الثقافية الإسلامية تحظر الجنوح إلى الابتذال و الابتزاز و الإبادة المادية والمعنوية .
ثانياً- الانتفاضة الثانية:
انتفاضة فقهية إنقاذية للذات. فبعدما تعينت المؤسسات والمرجعيات الفقهية كإحدى أهم قيادات الاجتماع في الإسلام، ولعلها أهمها على الإطلاق، فإنها تضطلع بمسؤولية تسييل مشروعه الحضاري الكوني في شبكة حياة المسلمين وصياغة منظوماتها المعاصرة والحديثة في شتى الميادين والحقول، وهذا ما مسمَّاه الإمام الخميني بـ «تحقيق وتجسيد الفقه العملي للإسلام»، وذلك ابتداءً من العبادات إلى الحراك الفكري والعقدي والقانوني والسياسي والقيمي، إلى الحكومة وإدارة الحياة والعلاقات وتنظيمها وترشيدها.. وصولاً إلى التطورات والاحتياجات المستقبلية والاستراتيجية للأمة.
إن حركة الإنقاذ الفقهي التي ندعو إليها، وفي ضوء التفلتات والاستسهالات الفقهية المستجدة التي قاربت حدود العشوائية والتسيب وانتحال الصفة الفقهية من قبل بعض ذوي النظرة الآحادية من غير أهل العلم والاختصاص والخبرة، ... هذه الحركة الإنقاذية لن تستتم فصولها إلا إذا وضعت نصب اهتماماتها إعادة النظر في البنى الفقهية، وإعادة تنظيمها على أسس حديثة وعصرية وصارمة، من شأنها ضبط حالة التراخي الفقهي أو «القرصنة الفقهية» القائمة
و في تقديرنا أن المؤسسات الدينية والمراكز والحوزات العلمية، إن خَطّطتْ وعَزَمَتْ، بعد انفتاحها المفتوح وتطوير بعض بناها وآليات عملها ووعي طبيعة المهمات المطلوبة، هي القادرة على الاضطلاع بهذه المسؤولية مع كامل التبعات المترتبة، ولو على نحو تدريجي، شرط أن يأتي مدروساً ومؤسساً على رؤية ومنهج مُحكَمَين ومزودين بالكفاءات البشرية الضرورية والريادية.
ثم لا يجوز بعد اليوم، والاستحقاقات على الإسلام والمسلمين والعرب داهمة وكَمُّ التحديات عظيم وبطء الاستجابة مزمن، أن لا نقحم احتساب الزمن في حراكنا الفقهي وأداءاته، وإنْ لم نَفعل ولم نَرق إلى مستوى المسؤولية المترتبة والضاغطة على حياتنا ومعيشنا تأخيراً وإعاقة أو إهمالاً في استنباط وإبداع حاجاتها الفقهية، فإن الزمن نفسه، وهذه سُنَّتُهُ، هو الذي سيقتحم علينا سكونيتنا ليتحول إلى «مُضاد حيوي» لأطروحتنا الحضارية ومشروعنا الاجتماعي الحياتي الذي يفترضه المسلمون الأصلح للحياة الإنسانية. وكل تأخير في تحريك قابلياتنا الفقهية وقدراتنا الاستنباطية والاجتهادية سيجعل قدرة الشريعة والتشريع ومهمتهما في إدارة حياة الناس وتسهيلها أكثر صعوبة وممانعة لأي استنهاض أو اصلاح أو تدبر.
ويبدو أن حساب الزمن، بما هو سلاح ذو حدين كما يقال، قد أضحى شريكاً في تقرير الصيرورة الحضارية لبني البشر، لا مجرد متدخل أومفاعل فيزيائي إنه... من السوسيولوجيا السياسية يصرف وينفق، ومن المعادلات العلائقية يغتذي. أما بما هو الحداثة والعصرنة فسيكون مأساوياً، ونحن في مستهل القرن الواحد والعشرين، أن يأتي من يبشرنا أننا توصلنا أخيراً في سباقنا الفقهي إلى إِنجاز قوامه: اعتبار دية المرأة معادلة لدية الرجل!.. إن عقلنا التاريخي لهو حقاً في محنة..، وأمامه امتحان عسير ليته لا يصاب فيه بالخذلان.
أما لجهة ابتلاء الثقوب المذهبية بين المسلمين، الجانب المؤسَسي من جهود أكبر وأكثر زخماً تبذل على مستوى التقريب بين المذاهب الإسلامية، تعزيزاً وتفعيلاً واستقطاباً،
فالتقريب بين المذاهب، كما فلسفته وأهدافه ووظيفته، وكما يعرف ذلك حكماؤه والعاملون له، لا ينبغي له الاكتفاء بالتسرب البطيء من بين أصابع النخب الدينية وحدها، وإنما يجب فتح جميع الأيدي والهمم حتى المخالف منها إيديولوجياً وفلسفياً لتتدفق تقريباته وإنجازاته المستتمة في عروق الأمة كلها وفي أنساقها التوحيدية وفي وعي وتصور المسلم للمسلم، والمسلم
ومن هذا الباب تدلف الدعوة المستحقة لما يسمى بـ «فقه الهجرة» الذي كنا قد نوهنا بإيجابياته سابقاً، إذا قيض له أن يشق طريقه إلى الظهور والتبلور والنجاح في التعاطي بالحاجات والقضايا الخاصة بمجتمعات الهجرة، على أن ينأى عن التناقضات في استنباط الأحكام والفتيا، فلا يحلل فقيه في الأساسيات والأصول، كما الفروع منها، ما يحرمه فقيه آخر فيصيب المهاجرين المسلمين من اضطرابه وتعارضه ما أصاب مسلمي الأندلس بعد استردادها من قبل جيوش الاسترداد النصرانية، إذْ أفتى بعض فقهاء ذلك الزمان بخروج من تبقى منهم إلى بلاد المسلمين حتى لا يخضعوا لسلطان إسباني غير مسلم، بينما أفتى فقهاء آخرون ببقائهم في بلادهم (الأندلس).. فكان لهذا التناقض أسوأ الأثر على مستقبل الوجود الإسلامي في ذلك الفردوس المفقود الذي ما عاد «مفقوداً»، لتعذر وجود المُطالِب .
ثالثاً- أما الانتفاضة الثالثة:
فهي انتفاضة سياسية وفي الخطاب، إِذْ لا يمكن لأزمة الهوية الثقافية التي يعاني منها المسلمون في شتى بقاع الدنيا، إلا أن تنتج تعدداً في قراءاتهم للمشروع الحضاري الإسلامي وللدور السياسي والاستنهاضي للدين الإسلامي الذي بات حاضراً موضوعياً وبقوة في الساحتين الإسلامية والدولية كخيار إيديولوجي وسياسي تغييري واستراتيجي.
إن الاستمرار في تأجيل الاستحقاق الديمقراطي وتداول لسلطة، أو تأخيره، أو التهرب منه والمناورة عليه، والإمعان في مصادرة الإرادة الشعبية، داخل الاجتماع السياسي في العالم الإسلامي والعربي، لهُوَ عندنا العائق الرئيس في وجه انطلاق الحراك الإسلامي الأممي في مسار الإصلاح الشامل للذات وتوفير شروط الممانعة والمواجهة الحضارية
أما على مستوى الخطاب، فنحن الأدرى بما استجرَّه علينا خطابنا التقليدي الموجه إلى الخارج من سوء فهم وتعثّر في التواصل مع الآخر، بل واستفزازه أحياناً: بأحكام مسبقة تارة، وتعميمية تارة أخرى، وذلك إضافة إلى ثلَّةٍ من "اليقينيات" التي نطلقها في وجهه من قبيل: الكفر والسقوط الأخلاقي والإباحية وتجريم علمانيته وقيمه ومعتقداته وتجريدها من الإيجابيات...، ما يقطع سبل التعالق والتعارف والتفاهم بيننا وبينه، ويدفعه إلى الارتداد إلى ذاته، وسَدِّ أذنيه عن سماع حقائق قضايانا والتمنع عن الوقوف إلى جانب ما نعتبره: حقوقنا الصحيحة والمشروعة، وربما يدفعه أيضاً إلى الارتماء في أحضان الخصم أو العدو. وبذلك، وبأيدينا، نحقق أذيتين أو خسارتين لأنفسنا ولقضايانا: أولاهما: خسارة سلاح موقف الآخر؛ والثانية: تشويه صورتنا وقطع الطريق بيننا وبين عاقلته ووعيه، وبمفاعيل مستقبلية أيضاً.
ز.الخاتمة
خارج تِلكُمُ الانتفاضات الثلاث على الذات بامتداداتها الإصلاحية والواقعية والممكنة داخل العالم الإسلامي والعربي، و قد رأينا تباشير نهضوية و استنهاضية عظيمة على يد من قاموا ببعضها ، وعلى مدى انتشار دياسبورا الأقليات المسلمة، لن يُتاح لمسلمي العالم ومشروعهم الحضاري المتجسد برسالية دينهم أن يتحولوا إلى مكون أساسي و تحولي في تقرير و بناء مستقبل البشرية، كما لن يقيض لهم أن يكونوا شركاء مؤثرين في تحديد توجهاتها وصيرورتها ومصيرها،
إن خروج ثلاثة ملايين متظاهر في بريطانيا عام 2003 لإعلان مناهضتهم للحرب على العراق عام 2003 ، و خروج الألوف في شوارع باريس إبان الحرب الصهيونية على لبنان في صيف 2006 يصرخون :" إسرائيل قاتلة ، إسرائيل إرهاب". و قيام محاكم مدنية في بلجيكا و ايرلندا وبلدان أخرى تحكم إسرائيل و تتهمها بارتكاب جرائم حرب و جرائم ضد الإنسانية في حربها على لبنان و على الفلسطينيين، و صدور تقارير دولية من قبيل تقرير غولدستون عام 2009، وتحاشي مسؤولين إسرائيليين كبار دخول بعض الدول الأوروبية خوفاً من تعرضهم للإعتقال والمحاكمة باعتبارهم متهمين بارتكاب مجازر ضد الفلسطينيين و اصطفاف مئات المنظمات الأهلية العالمية المتعددة الإنتماءات و المشارب الإيديولوجية و السياسية في ملتقيات و مؤتمراتٍ متلاحقة و حاشدة للتنديد بالكيان الصهيوني و ممارساته و للوقوف إلى جانب الحقوق العربية والإسلامية ...إن ذلك كله جدير بالتفكر و الشهادة بأن العالم يتغير و أن الغرب على مستوى مجتمعاته المدنية هو أيضاً يتغير ... و المطلوب أن يتوفر لنا الوعي اللازم لملاقاة كل هؤلاء الأحرار في منتصف الطريق.
بمنظار الواقع العلائقي بين العالم الإسلامي والغرب الإيديولوجي والسياسي، لا تبدو صورة المستقبل القريب مبشرة وتفاؤلية، غير أننا على المستقبل العلائقي البعيد بين مجتمعاتنا وعلى إرادتنا نراهن...
والمستقبل يبدأ الآن،
وكذلك ما ستكون عليه الذات وكل علاقة بالآخر. وسنن الاجتماع البشري تنبئ بأن الفعل منتجٌ نقيضه والرد. كان غرامشي يتحدث عن تشاؤم العقل و تفاؤل الإرادة . فهل كان مخطئاً؟